• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دور التآخي في بناء المجتمع

دور التآخي في بناء المجتمع

◄إنّ الله تعالى يحبّ لنا أن نعيش متماسكين، يساعد بعضنا بعضاً، وليس أشتاتاً متفرّقين قد ذهبت بنا المذاهب كلّ مذهب، فضاعت الأهداف ومعها فقدنا السُبل والوسائل إليها ولا يُتصوّر مجتمع واحد يشترك أهله في تحمّل شؤونه وشجونه، وهو لا تحكمه روح المؤاخاة، حتّى لو سادت روحيّة الأخوّة فيه شكلًا لا مضموناً ومظهراً لا جوهراً، كذلك لا يُقدَّر لهذا المجتمع النجاح فحتّى يُؤتي أُكُلَه ويتّجه إلى حيث أراد الله تعالى له لا بدّ أن تكون الأعمال ترجمان الأقوال، والمواقف مُعربة عمّا تحويه الضمائر وتكنّه السرائر، فترى من يتغنَّى بالصلة المميّزة بفلان من الناس ويعتبره أخاه، هو لا يخذله في وقت الشدّة، ولا يتركه للدهر فيكون عونًا له على الدهر لا عوناً للدهر عليه، وكذلك من يكثر الثناء والمديح أو إبداء الإعجاب بشخص ما لِما يتحلّى به من صفات، لا يترك زيارته إذا مرض ولا السؤال عن حاله فيؤلمه ما آلمه ويُسعِده ما أسعده.

وهنا، يتجلّى الدور الفعّال للتآخي في الحياة الاجتماعيّة، إذا قام كلّ فرد بما توجبه عليه أخوّته الإيمانيّة اتّجاه الآخرين، يقول الإمام الصادق(ع): "المؤمنُ أخو المؤمنِ كالجسدِ الواحدِ، إنِ اشتكى شيئاً منه وُجدَ ألمُ ذلكَ في سائرِ جسدِه، وأرواحُهما من روحٍ واحدةٍ، وإنَّ روحَ المؤمنِ أشدُّ اتّصالًا بروحِ اللهِ من اتصالِ شعاعِ الشمسِ بِها" .

فالتآخي يُكسب المجتمع قوّة في جوانب عديدة منها:

- القدرة العالية على تجاوز ما يعصف به من مُلمّات صعبة وفتن ومحن.

- الارتقاء إلى قمّة البذل والعطاء والإيثار.

- توحيد المنطلق الإيمانيّ في النظريّة والتطبيق.

- سيادة روحيّة الجماعة واضمحلال روحيّة الفرد والشخصانيّة.

- الحصانة الأخلاقيّة في اتجاهاتها الثلاثة مع الله تعالى ومع الناس ومع النفس.

 

لماذا سُمّوا إخواناً؟

ليس خفيًّا على أحد من الناس ما معنى أن يكون المؤمن أخًا للمؤمن، لكنّ هذا الوضوح ظاهريّ، ما لم تنكشف حقيقة الأخوّة كما يراها الإسلام في بُعدها الجوهريّ كما حدّد معناها وأسّس مبناها وكشف عن عمق الارتباط بين الاسم والمسمّى، حيث يقول الإمام  الصادق (ع): "إنّما سمّوا إخواناً لنزاهَتِهم عن الخيانةِ وسمّوا أصدقاءً لأنَّهم تصادَقوا حقوقَ المودّةِ".

 

فمن يكون خائناً لا يُؤتمن، ليس أخاً حقيقةً ولا تصحّ تسميته بذلك، ومن لا يراعي حقوق المودّة الّتي تدوم معها الأخوّة وتستمر بحيث يكذب على الآخر ولا يصادقه، فإنّ إطلاق اسم الصديق عليه ليس صحيحاً وعليه لا تتحقّق الأخوّة بمجرّد أن يقول الإنسان للآخر أنت أخي بل بالقيام بما يمليه هذا الرابط الدينيّ المبارك عليه من التزامات لا يسوغ له تجاهلها وإلَّا خرج عن عهد الأخوّة إلى نقيضه وسمّي أخًا بالتجوّز لا الحقيقة.

 

لماذا تؤاخي؟

من الصواب أن نسأل أنفسنا لماذا نؤاخي فلاناً من الناس ونزهد بغيره، وربّما كان الجواب لأنّه يحمل مؤهّلات أخلاقيّة عالية، وقد تمّ اختباره قبل اختياره، بينما الآخر لا رغبة بإقامة علاقة به لما هو معروف عنه من سوء السمعة، وربّما كان الجواب أيضاً أنّ لنا مصلحة ماليّة معه، ولذلك قدّمنا العلاقة به على غيره وآثرناه بما يحقّق لنا من نفع وكسب، رغم ما تنطوي عليه شخصيّته من رذائل الأخلاق، بحيث يصعب أن يكمل الإنسان طريق الأخوّة معه، وسرعان ما يتعرّض للتزلزل أو الشقاق، وربّما كان الجواب غير ذلك حيث إن تصوّر الأسباب الداعية للعلاقة بالناس لا تكاد تُحصى وتختلف من شخص إلى آخر والّذي نريد تسليط الضوء عليه هنا ليس إلَّا ميزان اتّخاذ الإخوان كما أرشدتنا إليه الأحاديث الشريفة الواردة عن أئمّتناعليهم السلام والّتي صنّفت نوعين من الأخوّة أحدهما مذموم والآخر مطلوب، والمستفاد هو طالما كان الدافع إلهيًّا ولوجهه تعالى فالأخوّة مرغوب بها، وإلَّا إذا كان دنيويّاً فهي مرغوب عنها.

ولذا، حريّ بنا أن نقف موقف السؤال لأنفسنا ونقول لماذا نؤاخي فلاناً دون فلانٍ؟

والحقيقة أنّ الأخوّة النفعيّة الدنيويّة هي عداوة، لأنّها تستبطن خيانة للطرف الآخر حيث لا تقوم على الصدق في بذل المودّة له لقاء ما حثّ عليه الدين الحنيف أو رجاء ثواب الآخرة، بل لأجل المكاسب التجاريّة والمصالح الزائلة وليس غريبًا في حالة كهذه أن ينتهي الأمر بالفراق أو القطيعة حينما تنقضي المصالح أو عندما يوجد بديل عنه يُمكن الاستفاة منه أكثر من سابقه،

 فقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "كلُّ مودّةٍ مبنيّةٌ على غيرِ ذاتِ اللهِ ضلالٌ، والاعتمادُ عليها مُحالٌ". وعنه (ع): "الناسُ إخوانٌ فمنْ كانَت أخوّتهُ في غيرٍ ذاتِ اللهِ فهي عداوةٌ".

وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. 

 

وليس بالإمكان أن يُزان نجاح الأخوّة وفشلها بالغُنم والغُرم الدنيويّين، بل ما دامت لمحض المصلحة الدنيويّة فهي فاشلة يبوء صاحبها بالحرمان جاء في الحديث: "من آخى في اللهِ غَنِمَ ومن آخى في الدنيا حُرِمَ".

ومن يوقن أنّ الآخر إنّما يزعم أنّه أخوه لكن ليس في الله فإنّ عليه الحذر منه والانتباه الدائم، صيانة لنفسه وحفاظًا على دينه جاء في الخبر عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "منْ لمْ تكنْ مودّتهُ في اللهِ فاحذرْه، فإنَّ مودّتهَ لئيمةٌ وصُحبَتهُ مشؤومةٌ".

وينشأ الشؤم في هذه الصحبة بِلحاظ أهدافها والبواعث عليها باعتبارها غير منزّهة عن إظهار شيء وإضمار شيء آخر، إضافة إلى أنّها في غير السبيل الّذي أراده الله لها, حيث أراد أن تكون أخوّة في ذاته لكنّ الإنسان إذا أرادها في غير الله، فما عساها تكون؟

 

كيف تختار أخاً لك؟

في كثير من الأحيان، يسارع الإنسان إلى إقامة علاقة ويتواصل مع غيره من دون أن تكون خطوته مدروسة ومتأنّية، فيسارع إلى مدِّ جسوره بشكل اعتباطيّ أو فوضويّ دون حسبان لما يترتّب على هذا التسرّع من نتائج، إذ كثيراً ما يبدو في وجهة جماليّة ملؤها الرغبة بالاستمرار والمكاشفة بالأسرار، خصوصاً في فترة التعارف الأولى بسبب إبداء المناقب وإخفاء المثالب، وهذا النمط العجول يُعتبر مغامرة ومخاطرة مع الآخر، طالما لم تعرفه حقّ المعرفة ولم تختبره الاختبار الّذي يؤدّي إلى الاختيار، وهذا يشابه تمامًا ما يحصل من فشل بين زوجين، كان اختيار كلّ منهما لشريكه باستعجال، بل السبب عينه هو ما يؤدّي إلى فشل علاقة بين أخوين مؤمنين أو وقوعهما بما لا يرغبان.

من هنا كان للإسلام دوره في هذا الشأن إذ دلّنا كيف ينبغي أن نختار الإخوان وعرّفنا السبيل إلى هذا الأمر محذّراً من الوقوع في صُحبة من لا ينبغي أن نصحبه أو معاشرة من لا يسوغ لنا أن نعاشره، فبيّن أنّ الاختبار هو ميزان على وفقه يتمّ الاختيار، وإلَّا كان الواحد عُرضة

 لما لا يحبّ أن يلقاه، أو مشى إلى حيث لا يريد الوصول يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): "قدّمِ الاختبارَ في اتخاذِ الإخوانِ, فإنَّ الاختبارَ معيارٌ يفرِّقُ بينَ الأخيارِ والأشرارِ".

فالواجب عدم إخاء الأشرار والانتباه منهم، وهذا ما لا يتمّ  إلَّا بعد معرفتهم, ومعرفتهم تكون بالتفريق بينهم وبين الأخيار بحيث لا يختلط الأمر علينا، من هو الخيّر ومن هو الشرّير، ونساوي بينهما، والسبيل إلى ذلك هو الاختبار الّذي ينتج من نؤاخي ومن لا نؤاخي، وإلَّا وقعنا في سوء الاختيار بمقارنتهم كما جاء في الحديث: "قدّمِ الاختبارَ وأَجدَّ الاستظهارَ في اختيارِ الإخوانِ، وإلَّا ألجأَكَ الاضطرارُ إلى مقارنةِ الأشرارِ".

ولا أظنّني منصِفًا إذا عدت باللائمة على غيري عندما لم يحفظ حقّ الأخوّة وضيّعه، فيما إذا كنت لم أعتمد الطريق القويم في حسن اختياره، بل إنّ الجزء الأكبر الّذي قدّم لهذه المشكلة، ومهّد لهذا الفشل هو الانتقاء دون معرفته حقّ المعرفة، والسير في الظلام الّذي ربما أودى إلى الهلكة، أو المفاجآت غير المحبّذة وهنا تتجدّد أسئلة عديدة وهي بماذا أختبر الإخوان، وفي أيّ ميدان، وما هي عناصر الاختبار الّذي يعتبر الخطوة الأولى؟ وكم هي المدّة؟ وهل يشمل ذلك علاقته

 

بنفسه إضافة إلى علاقته بغيره؟

إنّ هذا ما يتّضح الجواب عنه في ما يأتي ضمن عنوان لا تؤاخِ هؤلاء ولنأخذ نموذجاً واحداً ينظر إلى جنبتين الأولى ترتبط بالبعد العباديّ الفرديّ، والثانية بالبعد الحياتيّ الاجتماعيّ، وقد جمعهما حديث مولانا الإمام الصادق (ع) حينما يرشدنا إلى هذين الموردين الهامّين للاختبار للكشف عن مدى اهتمام هذا الإنسان بالصلة الإلهيّة كميدان خاصّ وبالصلة البشريّة كميدان عامّ قائلًا: "اختبِروا إخوانكَمُ بخصلتَينِ فإنْ كانَتا فيهِم وإلَّا فاعزُبْ ثمّ اعزبْ ثمّ اعزب محافظةٌ على الصلواتِ في مواقيتِها، والبرُّ بالإخوانِ في العسرِ واليسرِ".►

ارسال التعليق

Top